للمُدُنِ -كما للأَشْخاصِ- أحاديثُ وحِكاياتٌ، وحَوادِثُ وذكرياتٌ، وما مِنْ مدينةٍ عظيمةٍ من مُدُنِ العالمِ إلاَّ ولها مِيْراثُها من التّاريخِ والأمجادِ، والبُطولاتِ والمفاخِرِ، ولكنَّ مدينةً واحدةً من بينِها هي التي تستطيعُ أَنْ تُباهِيَ باستفتاحِ تَنَزُّلِ آخِرِ كُتُبِ السماءِ، وانطلاقِ دَعوةِ سيِّدِ الأنبياءِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
مدينةٌ واحدةٌ مِنْ بَين مُدُنِ العالمِ كلِّها يَحِقُّ لها أنْ تعتزَّ بأنَّها مَدْرَجُ الأنبياءِ أجمعينَ، فمَا مِنْ نبيٍّ إلاَّ وقد حَجَّ البيتَ كما جاءتْ به الآثارُ.
مدينةٌ واحدةٌ من بينِ مُدُنِ العالمِ أجمعَ يسَعُها أنْ تفخرَ بأنَّها قِبلةُ أكثر من مليارٍ ونصفٍ مليار من البشرِ، يستقبلونها بوجوههم وقلوبهم كلَّ يومٍ.
مدينةٌ واحدةٌ تقدِرُ أنْ تُباهيَ بأنَّ بيتَها أَشْرفُ بيتٍ بناءً، «فالآمِرُ هو الملكُ الجليلُ، والمهندسُ هو جبريلُ، والباني هو الخليلُ، والتلميذُ إسماعيلُ عليهم السلامُ».
إنَّها مكةُ.. أمُّ القرى.. وسيِّدةُ المدائنِ.. وعاصمةُ الوحيِ..
تَنْزِلُ قلبَها فتَجِدُ كعبةَ الرحمنِ، وتتيامَنُ إلى شرقِها فتقفُ أمام غارِ حراءٍ، وجبلِ الرحمةِ، والمشعرِ الحرامِ، وتتياسرُ نحو غربِها فتلقَى (بِئْرَ طُوى) حيثُ مُغتسَلُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الفتحِ، ثم تقصدُ شمالَها فإذا شِعْبُ عامرٍ حيثُ منبعُ الدعوةِ وأولى ملاحمِها، وتنزلُ إلى جنوبِها فتُصافحُكَ أنوارُ جبلِ ثورٍ، وذكرياتُ الهجرةِ الشريفةِ.
إنَّها مكةُ وحسبُ...
بلادٌ حباهَا اللهُ أمنًا وكعبةً
يُصلِّي إليهَا النّاسُ فرضًا محتَّما
وآياتُها مادام للنَّاسِ قبلةٌ
بها بيِّناتٌ تَنْثُرُ الأُفْقَ أنجما
مَقامُ خليلِ الله فيها محجبًا
ومَشْربُ إسماعيلَ من بئرِ زمزمَا
ومَنْ أَمَّها من أيِّ قُطْرٍ وبلدةٍ
ومَرَّ علَى الميقاتِ لَبَّى وأَحْرما
وضُوعِفَتِ الأعمالُ فيها تفضُّلاً
مِن الله ذي العرشِ الذي قد تَكَرَّما
ولو عَرَفَ الإنسانُ حُرمةَ أرضِها
تأدَّبَ فيها واستقامَ وعَظَّما
ليس في قاموسِ الأرضِ ما يفي بحقِّ مدينةٍ هي من السماءِ وإلى السماءِ.
وليس في طوقِ البشرِ أنْ يبلغُوا القَصْدَ في وصفِ بلادٍ اصطفاها ربُّ البشرِ.
فحسبي وحسبكم من مكةَ أن نُعبِّرَ عن مكانتِها في قلوبنا.. ثم نتلو خاشعين قول المولى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا). المصدر